
لطالما حكمت فرنسا الموضة، من ماري أنطوانيت إلى جورجو أرماني. يقول المصمم كينزو تاكادا: "كان حلمي أن أزور باريس،" متذكرًا الوقت الذي سافر فيه إلى هناك عندما كان صاحب رؤية في العشرين من عمره. يعترف مؤسس ماركة الأزياء العالمية كينزو، التي يقع مقرها الرئيسي في العاصمة الفرنسية، باريس: أنه بينما كانت لندن في منتصف الستينيات مكانًا ديناميكيًا ومثيرًا للاهتمام، لم تكن العاصمة البريطانية هي التي سيطرت على خياله، بل أنها كانت باريس. حيث يقول: عندما نشأت في اليابان وأردت دخول الصناعة، كانت الموضة حقًا في باريس. لذلك، كنت مدفوعًا للذهاب إلى عاصمة الموضة. لا تزال علامة Takada موجودة في مدينة الأضواء، كما لا تزال باريس تُعتبر مثالًا لكل ما هو عصري. لكن لماذا؟ ما الذي يجعل الفرنسيين أنيقين للغاية؟
في الواقع خارج باريس، في فرساي القريبة، فإن قصة الموضة الفرنسية تبدأ حقًا. في عهد "لويس الرابع عشر" (1643-1715)، استثمرت المحكمة بشكل كبير في الفنون والأزياء. وفقًا للدكتورة "فاليري ستيل"، أمينة ومحررة الكتاب المصاحب لمعرض "باريس عاصمة الموضة"، فإن هذا التركيز على الموضة ينبع من كونه أكثر بكثير من مجرد جماليات. وقالت لبي بي سي ديزاين: أراد "لويس الرابع عشر" التأكد من أن مظهره ومظهر حاشيته يتوافقان مع فكرته عن كونه ملكًا حديثًا وقويًا ومتحضرًا، ليس مجرد ملك محارب من العصور الوسطى. ومن الواضح أن الأزياء والملابس الاحتفالية كانا جزءًا كبيرًا من ذلك.
وقد كانت استثمارات "لويس الرابع عشر" في الملابس مثمرة بشكل لا يصدق، وأصبح يُنظر إليه على أنه نموذج ملكي. تقول "فاليري ستيل": "أراد الجميع أن ينظروا ويتصرفون مثله. لم يكن "لويس الرابع عشر" مهتمًا بالقوة الناعمة، وهي القدرة على التأثير في الآخرين بحيث يصبح ما تريده هو نفسه ما يريدونه، وتصبح قيمك وثقافتك ومبادئك وطريقتك في الحياة هي النموذج الذي يودون الاحتذاء به. وقد رأى في الموضة هو ووزير ماليته، جان بابتيست كولبير، إمكانات اقتصادية هائلة أيضًا. وبناءً على ذلك، فقد سعوا معًا لمنع المنافسة الأجنبية وحماية صناعة النسيج المحلية، والتي قدموا لها أيضًا تمويلًا كبيرًا." كما قال "كولبير" فإن الموضة ستكون لفرنسا كما ستكون مناجم الذهب بالنسبة لإسبانيا." وأن هذا الاعتقاد سيكون محوريًا في جدول أعمالهم الاقتصادي، وهو أمر رائع، لأنه بعد ثلاثة قرون ونصف، لا يزال هذا صحيحًا: الموضة هي ركيزة أساسية للاقتصاد الفرنسي. وبعد وفاة “لويس الرابع عشر”، بدأ رجال الحاشية في فرساي في قضاء المزيد من الوقت في باريس. إلى جانب ظهور رموز الموضة، مثل ماري أنطوانيت، والذي أدى بدوره إلى ربط باريس بالموضة والمتعة الحسية.
تفوّق فرنسا في الموضة
على الرغم من أنها فقدت لقب أكبر قوة عظمى في العالم لصالح بريطانيا إلا أن تفوق فرنسا في الموضة وجميع أشكال الثقافة الراقية في هذا الصدد استمر بعد سقوط الإمبراطورية الفرنسية الأولى. وعلى عكس لندن، التي تميزت في الملابس الرجالية، فقد كان تركيز باريس على الملابس النسائية.
تمحورت الموضة الفرنسية حول فكرة: المرأة الباريسية المثالية، والأنيقة، والمثقفة، والمتميزة. وتمت الإشارة إلى باريس نفسها بالأنوثة، وحتى تجسيدها على أنها امرأة. ولكن على الرغم من مكانتها وشهرتها، عملت الأزياء الفرنسية على نطاق ضيق حتى أنشأ المصمم البريطاني "تشارلز فريدريك وورث" متجرًا في باريس في منتصف القرن التاسع عشر. وغالبًا ما يتم استخدام الأزياء الراقية اليوم كمصطلح جامع للملابس الفاخرة بشكل عام، ولكن في فرنسا، وفي دوائر الموضة عمومًا، إنها تسمية مخصصة فقط للمصممين الذين يستوفون مجموعة صارمة من المعايير.
في روح "لويس الرابع عشر"، استخدم الفرنسيون الأزياء الراقية مرة أخرى كوسيلة للقوة الناعمة في أعقاب هزيمتهم على أيدي الألمان في الحرب الفرنسية البروسية (1870-1871). كتب الدكتور ديفيد جيلبرت من جامعة رويال هولواي في مقال بعنوان: باريس والنظام العالمي لعواصم الموضة، وذكر فيه: "أنه لم يكن من قبيل المصادفة الترويج القوي لنظام الأزياء الراقية. وأن أزياء باريس في ظل الجمهورية الثالثة كانت جزءًا من إعادة تأكيد للقوة والتأثير للفرنسيين في الخارج."
قد يبدو غريبًا أن مدينة طموحة وقوية، مثل نيويورك تعزز الموضة الباريسية بدلًا من الموضة الأمريكية، ولكن كانت هناك أسباب واضحة لذلك. كما أشارت "ستيل" سريعًا: "كانت الكثير من المحلات الأمريكية، مثل Vogue و Harper’s Bazaar موجهة إلى النخبة الاجتماعية. حيث كان هؤلاء الأشخاص يسافرون لعقود إلى باريس للحصول على خزائن الملابس الراقية. ومع ذلك، كان الغضب تجاه الأزياء الفرنسية في الولايات المتحدة ذي حدين، حيث كثرت النسخ الرخيصة من تصميمات الأزياء الراقية الفرنسية، وكان العديد من الأمريكيين الشماليين في ذلك الوقت أكثر من راغبين في قبول أقل بكثير من الشيء الحقيقي القيّم."
العصر الذهبي
في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي، بدأ المصممون، مثل كريستيان ديور، وغابرييل 'كوكو' شانيل، وهوبير دي جيفنشي، ما يُشار إليه الآن باسم "العصر الذهبي'' للأزياء الفرنسية، ولم يكن هناك شك في تفوق باريس في الملابس النسائية. ولكن أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا بعض الشيء في منتصف الستينيات، مع "زلزال الشباب" في لندن، بقيادة أمثال "ماري كوانت"، في حين شهدت السبعينيات والثمانينيات صعود ميلانو وطوكيو كمراكز أزياء رئيسية. وإذا كان ذهاب العديد من المصممين اليابانيين إلى فرنسا على طريقة تاكادا قد أخمد التهديد من الشرق، فقد كانت باريس تواجه ضغوطًا متزايدة من لندن ونيويورك، المنافسين القدامى والجدد، في أواخر الثمانينيات والتسعينيات.
من خلال القوة الناعمة والعلامات التجارية الثقافية، وظهور الأزياء الراقية، والترويج الدؤوب للأزياء الفرنسية نيابةً عن الفرنسيين، أصبحت باريس تتمتع بسمعة الأناقة التي لا تقبل الجدل. ولكن اليوم، مع الأخذ في الاعتبار حالة مدن، مثل لندن، وميلانو، ونيويورك، والعولمة المتزايدة لصناعة الأزياء أو الموضة إلى حد كبير في جميع أنحاء العالم، على حد تعبير "كينزو تاكادا"، هل لا يزال من الممكن التحدث عن باريس على أنها عاصمة الموضة في العالم؟!
وفقًا لما قالته دكتور "ستيل": لا تزال باريس تُعرف دوليًا كمدينة للأزياء لأسباب متنوعة. فهي على سبيل المثال موطنًا لبعض أبرز مجموعات الأزياء العالمية. وتضيف: لم تعد الموضة مسألة تتعلق بالكثير من الشركات الصغيرة المستقلة، بل بمسألة التكتلات العملاقة. حيث تقع جميع المجموعات الفاخرة تقريبًا، مثل LVMH و Kering، في باريس. تعتقد "ستيل" أيضًا أن عروض الأزياء الباريسية تتفوق على تلك التي تقام في مدن أخرى. نيويورك وميلان مُدن رائعة، لكن، على سبيل المثال، عروض الأزياء في نيويورك لا تتمتع بالسحر والإثارة مثل تلك الموجودة في باريس، في الغالب. كما تشير المصممة "إيزابيل مارانت"، والمقيمة في باريس، إلى عظمة عروض الأزياء في المدينة. فتقول "مارانت": باريس فريدة تمامًا من حيث الطريقة التي يتم بها التعبير عن الموضة هناك، ومن حيث جودة ومستوى عروض أسبوع الموضة.
من المؤكد أن وجود التكتلات الكبرى في باريس وجودة عروض الأزياء المعاصرة فيها أمران مهمان. ومع ذلك، ربما يكون التاريخ هو العنصر الحاسم في التصور المستمر لباريس كمركز للأزياء، بغض النظر عما إذا كانت الارتباطات التاريخية التي يتم إنشاؤها عقلانية أو نتيجة للتسويق الذكي الذي قام به الفرنسيون وغيرهم ممن لهم مصلحة في الموضة الفرنسية. فلطالما كانت فرنسا تقدم طرقًا جديدة لارتداء الملابس. وتقول المصممة "مارانت": فرنسا لديها تراث ثقافي عظيم، مشيرة إلى أمثال: بول بوارت، وإلسا شياباريللي، وشانيل، الذين ابتكروا اتجاهات جديدة وكانوا موضع إعجاب في جميع أنحاء العالم.
وفي النهاية يصعب على المرء إنكار أسبقية باريس كعاصمة للأزياء. ولكن ماذا عن المستقبل؟ هل يعتقد أولئك الذين لديهم اقتناعًا قويًا أن باريس هي عاصمة الموضة في العالم أنه من المحتمل أن تنتزع دولة اخرى هذا اللقب منها؟ تقول دكتور "ستيل: والتي تقترح أن شنغهاي منافس محتمل بسبب النفوذ الاقتصادي المتزايد للصين: بالطبع يمكن لأي شيء أن يتغير. حيث أن هناك العديد من المدن أيضًا التي تعرض أساليب مثيرة جدًا للمواهب الناشئة. ومع ذلك، وبالنظر إلى الدور الهائل الذي يلعبه التراث والتاريخ في تشكيل تصورات المدن كعواصم للأزياء، يبدو من غير المحتمل أن تتزحزح باريس، "ملكة العالم" الأسطورية، عن عرشها في أي وقت قريب، هذا إذا حدث ذلك أصلًا.